قـــلوب مشاهد حزينة عايشتها عن قرب ، وا لقرب عندي هو قرب المعايشة التي تستدعي الأحزان ، ومن الأحزان ترق القلوب ، وتستشف العواطف الطاهرة ، وتتفجر ينابيع صنعتها الدموع الرقراقة !
يا إلهي كم من كنوز كشفت عنها تلك الدموع !! أليست تطهيرا للنفوس البشرية ؟! نحن بالأحزان تجتمع عواطفنا وتتوحد ، ونحن بالدموع نتطهر من عيوب السلوكيات التائهة !! ونحن بالموت ومعاني
الرحيل لعزيز أو حبيب أو قريب نجد الدنيا وراء ظهورنا ، وتفتح لقلوبنا نوافذ لم نكن نرى منها معاني كثيرة ، فلا معاني إلا معاني مراجعة الحسابات ، وتغيير الوجهة والنية وأسلوب الحياة !!
إن الراحلين عنا كثيرا ما نبكي عليهم ، فنودع حياتهم ، ونهيم في ذكراهم ، ونقرأ في رحيلهم قيمة الحياة وحقارتها إذا لم نستوعب معاني ذاك الرحيل ! إنها دروس مكتوبة تحرك وجداننا تجاه الفرص القادمة
التي لا بد أن نستثمرها .. يا سادة ارحلوا عن ملذات فانية ، وأطماع رخيصة ، وكراهيات مضنية ، واستلهموا من الموت العبر ، والسير النقية ، والنفوس التقية ، وحياة فانية تركها الطيبون المتسامحون
بعدما أخرجوها من حساباتهم تاركين لنا كتابا مفتوحا من مكارم الأخلاق ، ودواء لنا ترياق ، وذكريات ناصعة خاشعة تملأ الآفاق !!
عرفته متواضعا لدرجة الخجل ، عرف قيمة الحياة فأحياها في نفسه بالعمل في هدوء تزينه دائما ابتسامة القانع الراضي ، احترام صنعته كان بوحي من ضميره الذي قل في حياتنا وذل إلا من صفوة هومن أبرزهم !!
يلجأ إليه الناس الراغب والطامع فيعاملهم بما يحبون ويجيد العمل بما لا نراه في زماننا يكتمل ، لا يجادل في أجر ، ويرضى دائما بأن يكون المغلوب دون ندم على من عامله بغمط حقه أو مماطلة وجور !!
في حياته حرم من الأبناء الذكور لكنه فاز بالبنات وقد طبعن بكثير من صفاته ، فرباهن أحسن تربية وكن له ذخرا وحبا ناميا متراكما ، وترجمت سلوكياته معهن هذا المعين الذي لا ينضب من الحب الجارف الذي امتلأت
به قلوبهن !! ورغم عددهن الزائد إلا أن الله أكرمهن في حياته فأظلتهن السعادة ، وبارك فيهن الله ببركة أب فيه من الفضائل ما جعله محل كل حب وتقدير لم أكن أن أتخيله !!
قلب يهيم حبا بهن ، وكن يبادلنه هذا الحب وأكثر !! علاقة نبذت الفوارق وحدود السنين ، فتساوى الجميع في أسرة الأمومة والأبوة راعياها ، وبظل المحبة والهدوء عاش الجميع . ومرض الأب الحنون وطال به المرض وتغير الزمان وتثاقلت لياليه وزادت وطأة ساعاته التي بللتها الدموع وانكسرت بها قلوب الزوجة الصبورة المحبة والبنات وقد اعتصرهن الأسى والألم !! وأطلت من بين سكون الوحشة نذر الوداع !! دموع متشحة بأحزان سكنت قلوبهن ولا يجدن منها فكاكا !! فهن أصبحن سطورا في أسطورة حرقة الرحيل وعذاب الذكريات إذا رحل ..كانت آخر كلماته لإحدى بناته : ( تعبتكوا معايه كتر خيركوا .. خلوا بالكوا من أمكم !! ومن نفسكم !! وادعولي .. وإذا مت فتصدقوا على الفقراء والمحتاجين ) ... وجاء الرحيل في سكون مخيف ، وفي ساعات الليل المتأخرة بعدما سكنت الكائنات والبيوت والشوارع
وساد صمت كصمت الموتى إلا من صوت المذياع الذي يرتل آيات من كتاب الله في هدوء وخشوع !! وبرزت الأحزان بلونها القاسي ، فانفطرت قلوب ، وسالت دموع مشبعة بعجز الإنسان حين يجد حبيبه تحول إلى جثة لا حراك فيها ، وأجهش الجميع بالبكاء ، وتوقف الزمن بهم عند المحطة الأخيرة !!
حيث معارك الصراخ والتصبر ، والوجود واللاوعي . يرحمك الله يا حاج أبو عوف أبو عوف يوسف ، ويلهم أسرتك الصبر والسلوان ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
محمود السيد البسيوني 30 مايو 2015